لماذا تفضّل الولايات المتحدة التدخل العسكري على الدبلوماسية؟ سؤال شغل المراقبين لعقود وأثاره الكاتب جاسم العزاوي. وصف الرئيس الراحل جيمي كارتر بلاده بأنها الأكثر ميلاً للحروب، منتقداً سجلها الذي يضم ثلاثين حرباً وصراعاً واغتيالاً منذ الحرب العالمية الثانية. أما الرئيس دوايت أيزنهاور فقد صاغ تعبير "المجمّع الصناعي العسكري" الذي أصبح مرادفًا لنزعة أمريكا نحو الحرب. غير أن هذه النزعة ليست حديثة؛ بل تعود جذورها إلى مفاهيم متجذرة شكلت سياسات أمريكا منذ تأسيسها، وعلى رأسها "الاستثنائية الأمريكية" و"القدر المتجلي".

 

الأسس الفكرية: الاستثنائية الأمريكية والقدر المتجلي

وقال الكاتب في مقال نشره موقع ميدل إيست مونيتور، إن هناك قناعة تشكّلت لدى قادة الولايات المتحدة عقب الاستقلال بأن بلادهم مختلفة أخلاقيًا ومصيرها أن تقود العالم. ظهرت فكرة "الاستثنائية الأمريكية" باعتبار أمريكا مدينةً مضيئة على جبل، منارة للحرية والديمقراطية، ومكلفة إلهياً بمهمة عالمية.

ألكسيس دو توكفيل وصف أمريكا بـ"الاستثنائية" في كتابه عام 1835، لكن المصطلح نفسه ظهر لاحقًا في سجالات داخل الحزب الشيوعي الأمريكي أواخر العشرينات. ارتبطت هذه الفكرة بالبروتستانتية المسيحية، خاصة الجذور البيوريتانية، التي نظرت إلى أمريكا على أنها أمة تعاقدت مع الله للقيام بمهمة فريدة.

أما "القدر المتجلي" فوفّر الأساس العملي: من حق أمريكا – بل من واجبها – أن تتوسّع غربًا لنشر الحضارة. أدى هذا إلى إبادة السكان الأصليين وسلب أراضيهم، مبرّرين ذلك بمهمة "تمدينية" مقدسة.

هذا التوسع اصطدم لاحقًا بالإمبراطوريتين الإسبانية والمكسيكية، وأدى إلى حرب المكسيك (1846-1848)، التي مكّنت الولايات المتحدة من السيطرة على مناطق شاسعة تشمل ولايات غربية عدة.

 

عقيدة مونرو

في عام 1823، أعلن الرئيس جيمس مونرو عقيدته الشهيرة: "أمريكا للأمريكيين"، ما شكّل أول تعبير رسمي عن نوايا التدخل. حذرت هذه العقيدة الأوروبيين من التدخل في شؤون أمريكا اللاتينية، لكنها منحت الولايات المتحدة حق التدخل بذريعة حماية الاستقرار الإقليمي والمصالح الأمريكية، واضعة الأساس لسلسلة من التدخلات في أمريكا اللاتينية طوال القرنين التاليين.

 

عملية أجاكس والانقلاب على مصدق

بعد الحرب العالمية الثانية، ومع احتدام الحرب الباردة، أصبحت إيران نقطة استراتيجية بسبب قربها من الاتحاد السوفيتي واحتياطياتها النفطية الضخمة. برز محمد مصدق، رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطياً، كرمز وطني نزيه سعى لاستعادة ثروات بلاده.

أمّم مصدق شركة النفط البريطانية (AIOC) التي كانت تستحوذ على العائدات وتمنح إيران حصة ضئيلة. صرّح قائلاً: "أمّمت نفط إيران وتخلّيت عن نظام الاستغلال السياسي والاقتصادي الذي فرضته أعظم إمبراطورية... دفعت الثمن من نفسي وأسرتي وكرامتي، لكنني قاومت النظام الاستعماري والتجسسي الوحشي بإرادة الله والشعب".

هذا التوجه الوطني صدم بريطانيا، فطلب رئيس وزرائها ونستون تشرشل من الرئيس الأمريكي أيزنهاور التدخل. وافق الأخير، وكلف وكالة المخابرات المركزية بتنفيذ "عملية أجاكس"، بقيادة كيرميت روزفلت، وانتهت بالإطاحة بمصدق في أغسطس 1953، وإعادة الشاه محمد رضا بهلوي إلى الحكم المطلق.

تبرّر أمريكا هذا الانقلاب بأن مصدق كان يهدد الاستقرار، وقد يفتح الباب أمام نفوذ سوفيتي، ما يُخالف مصالح الغرب. من منظور الاستثنائية الأمريكية، التدخل بدا "واجبًا أخلاقيًا" لحماية الحرية والاستقرار، حتى لو تطلب إسقاط حكومة ديمقراطية.

 

مفارقة تاريخية

بعد ثلاث سنوات فقط، خلال أزمة السويس عام 1956، عارض أيزنهاور العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر، وطرح "عقيدة أيزنهاور" التي دعت إلى إنهاء النفوذ الاستعماري الأوروبي. هذا التناقض بين موقفه من مصر ودوره في إيران يعكس انتقائية في تطبيق المبادئ الأمريكية، حسب ما تقتضيه المصالح.

 

نمط متكرّر

انقلاب إيران لم يكن حادثاً معزولاً، بل أسّس لنمط تدخل أصبح سمة دائمة للسياسة الأمريكية. إذ أضحت الأيديولوجيات القديمة مثل "الاستثنائية" و"القدر المتجلي" أدوات لتبرير تدخلات عسكرية في مناطق بعيدة، تحت ذريعة حفظ الأمن أو مواجهة التهديدات. وبهذا، رسمت أحداث عام 1953 معالم سياسة خارجية تفضّل التدخلات الخفية والعمل العسكري على الصبر الدبلوماسي، مستندة إلى صورة ذاتية أخلاقية متفوقة لا تتردد في فرض نفسها عالميًا.

https://www.middleeastmonitor.com/20250806-the-seeds-of-intervention-american-exceptionalism-and-the-1953-coup-in-iran/